|
الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{بَلْ كَذَّبُواْ بالحق لَمَّا جَاءَهُمْ} هذا الإضراب أتبع به الإضراب الأول، للدلالة على أنهم جاؤوا بما هو أقبح من تعجبهم، وهو التكذيب بالحق الذي هو النبوة، وما تضمنته من الإخبار بالحشر وغير ذلك، وقال ابن عطية: هذا الاضراب عن كلام محذوف تقديره: ما أجادوا النظر ونحو ذلك {فَهُمْ في أَمْرٍ مَّرِيجٍ} أي مضطرب، لأنهم يقولون: شاعر، وتارة ساحر، وغير ذلك من أقوالهم. وقيل: معناه منكر، وقيل: ملتبس. وقيل: مختلط.{وَزَيَّنَّاهَا} يعني بالنجوم {وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ} أي من شقوق، وذلك دليل على إتقان الصنعة {رَوَاسِيَ} يعني الجبال {مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} أي من كل نوع جميل.{مَاءً مُّبَارَكًا} يعني المطر كله وقيل: الماء المبارك ماء مخصوص ينزله الله كل سنة، وليس كل مطر يتصف بالمبارك، وهذا ضعيف {وَحَبَّ الحصيد} هو القمح والشعير نحو ذلك مما يحصد {بَاسِقَاتٍ} أي طويلات {طَلْعٌ نَّضِيدٌ} الطلع أول ما يظهر من الثمر، وهو أبيض منضد كحصب الرمان، فما دام ملتصقًا بعضه ببعض فهو نضيد، فإذا تفرق فليس بنضيد {كَذَلِكَ الخروج} تثميل لخروج الموتى من القبور بخروج النبات من الأرض.{وَأَصْحَابُ الرس} قوم كانت لهم بئر عظيم وهي الرس، بعث إليهم نبي فجعلوه في الرس وردموا عليه فأهلكهم الله.{وَأَصْحَابُ الأيكة} يعني قوم شعيب وقد ذكر {وَقَوْمُ تُّبَّعٍ} ذكر في [الدخان: 37] {فَحَقَّ وَعِيدِ} أي حل بهم الهلاك {أَفَعَيِينَا بالخلق الأول} يقال: عيي بالأمر إذا لم يعرف علمه، والخلق الأول: خلق الإنسان من نطفة ثم من علقة وقيل: يعني خلق آدم، وقيل خلق السموات والأرض، والأول أظهر، ومقصود الآية الاستدلال بالخلقة الأولى على البعث والهمزة للإنكار {بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} أي هم في شك من البعث، وإنما نكر الخلق الجديد؛ لأنه كان غير معروف عند الكفار المخاطبين، وعرّف الخلق الأول لأنه معروف معهود.{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان} يعني جنس الإنسان، ومعنى {تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ}: تحدثه نفسه في فكرتها. وذلك أخفى الأشياء وقيل: يعني آدم ووسوسته عند أكله من الشجرة، والأول أظهر وأشهر {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد} هو عرق كبير في العنق، وهما وريدان عن يمين وشمال، وهذا مثل في فَرْط القُرُب، والمراد به: قربُ علم الله واطلاعه على عبده، وإضافة الحبل إلى الوريد كقولك: مسجد الجامع أو يراد بالحبل: العاتق.{إِذْ يَتَلَقَّى المتلقيان} يعني الملكين الحافظين الكتابين للأعمال، والتلقي هو: تلقّي الكلام بحفظه وكتابته، والعامل في إذ نحن أقرب، وقيل: مضمر تقديره: اذكر. واختبار ابن عطية {عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال قَعِيدٌ} أي قاعد: وقيل: مقاعد بمعنى مجالس، وردّه ابن عطية بأن المقاعد إنما يكون مع قعود الإنسان، والقاعد يكون على جميع هيئة الإنسان، وإنما أفرده وهما اثنان لأن التقدير: عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد من المتلقين، فحذف أحدهما لدلالة الآخر عليه، وقال الفراء: لفظ قعيد يدل على الاثنين والجماعة فلا يحتاج إلى حذف.{مَّا يَلْفِظُ مِن قول إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} العتيد: الحاضر، وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن مقعد الملكين على الشفتين قلمهما اللسان ومدادهما الريق، وعموم الآية يقتضي أن الملكين يكتبان جميع أعمال العبد، ولذلك قال الحسن وقتادة: يكتبان جميع الكلام فيثبت الله من ذلك الحسنات والسيئات ويمحو غير ذلك، وقال عكرمة: إنما تكتب الحسنات والسيئات لا غير.{وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} أي بلقاء الله أو فراق الدنيا، وفي مصحف عبد الله بن مسعود: وجاءت سكرة الحق بالموت، وكذلك قرأها أبو بكر الصديق، وإنما قال: جاءت بالماضي لتحقق الأمر وقربه، وكذلك ما بعده من الأفعال {ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ} أي تفر وتهرب، والخطاب للإنسان.{سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ} السائق ملك يسوقه، وأما الشهيد فقيل: ملك آخر يشهد عليه وهو الأظهر، وقيل: صحائف الأعمال، وقيل: جوارح الإنسان.{لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هذا} خطاب للإنسان الذي يقتضيه قوله: {كل نفس}، يريد أنه كان غافلًا عما لقي في الآخرة، وقيل: هو خطاب لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، أي كنت في غفلة من هذا القصص؛ وهذا في غاية الضعف لأنه خروج عن سياق الكلام {فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ} قيل: كشف الغطاء معاينته أمور الآخرة {فَبَصَرُكَ اليوم حَدِيدٌ} أي يبصر ما لم يبصره قبل، وقد ورد: الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا.{وَقال قَرِينُهُ هذا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} القرين هنا: الشيطان الذي كان يغويه، وقيل: الملك الذي يتولى عذابه في جهنم، والأول أرجح لأنه هو القرين المذكور بعد، ولقوله: {نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف: 36] ومعنى قوله: {هذا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ}، أي هذا الإنسان حاضر لدي أعتدته ويسرته لجهنم، وكذلك المعنى إن قلنا: إن القرين هو الملك السائق، وإن قلنا: إنه أحد الزبانية فمعناه هذا العذاب لديّ حاضر، ويحتمل أن يكون ما في قوله: {مَا لَدَيَّ}، موصوفة أو موصولة، فإن كانت موصوفة فعتيد وصف لها، وإن كانت موصولة، فعتيد بدل منها، أو خبر بعد خبر، أو خبر مبتدأ محذوف، وما هي خبر المبتدأ على هذه الوجوه، ويحتمل أن يكون {عَتِيدٌ} الخبر وتكون {مَا} بدلًا من هذا أو منصوبة بفعل مضمر.{أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ} الخطاب للملكين السائق والشهيد، وقيل: نه خطاب لواحد على أن يكون بالنون المؤكدة الخفيفة، ثم أبدل منها ألف، أو على أن يكون معناه: ألق ألق مثنى مبالغة وتأكيدًا، أو على أن يكون على عادة العرب من مخاطبة الاثنين كقولهم: خليلي وصاحبي وهذا كله تكلف بعيد، ومما يدل على أن الخطاب لاثنين قوله: {فَأَلْقِيَاهُ فِي العذاب الشديد} {مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ} قيل: مناع للزكاة المفروضة والصحيح العموم {مُّرِيبٍ} شاك في الدين فهو من الريب بمعنى الشك {الذي جَعَلَ} يحتمل أن يكون مبتدأ وخبره {فَأَلْقِيَاهُ} وأدخل فيه ألفًا لتضمنه معنى الشرط، أو يكون بدلًا أو صفة، ويكون فألقياه تكرار للتوكيد.{قال قرِينُهُ رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُهُ} القرين هنا شيطانه الذي وُكِّل به في الدنيا، بلا خلاف ومعنى ما أطغيته، ما أوقعته في الطغيان، ولكنه طغى باختياره، وإنما حذف الواو هنا لأن هذه جملة مستأنفة بخلاف قوله: {قال قرِينُهُ} قبل هذا فإنه عطف.{قال لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَيَّ} خطاب للناس وقرنائهم من الشياطين {مَا يُبَدَّلُ القول لَدَيَّ} أي قد حكمت بتعذيب الكفار فلا تبديل لذلك، وقيل: معناه لا يكذب أحد لدي لعلمي بجميع الأمور، فالإشارة على هذا إلى قول القرين ما أطغيته {وَتَقول هَلْ مِن مَّزِيدٍ} الفعل مسند إلى جهنم، وقيل: إلى خزنتها من الملائكة، والأول أظهر واختلف هل تتكلم جهنم حقيقة أو مجازًا بلسان الحال؟ والأظهر أنه حقيقة، وذلك على الله يسير، ومعنى قوله: {هَلْ مِن مَّزِيدٍ} إنما تطلب الزيادة وكانت لم تمتلئ. وقيل: لا مزيد أي ليس عندي موضع للزيادة، فهي على هذا قد امتلأت والأول أظهر وأرجح، لما ورد في الحديث «لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول: هل من مزيد حتى يلقى فيها الجبار قدمه»، وفي الحديث كلام ليس هذا موضعه، وإن كان اسم معفول فوزنه مفعول.{وَأُزْلِفَتِ الجنة} أي قرِّبت ثم أكد ذلك بقوله غير بعيد {لِكُلِّ أَوَّابٍ} أي كثير الرجوع إلى الله، فهو من آب يؤوب إذا رجع، وقيل: هو المسبح لله من قوله: {ياجبال أَوِّبِي مَعَهُ} [سبأ: 1] {حَفِيظٍ} أي حافظ لأوامر الله فيفعلها، ولنواهيه فيتركها.{مَّنْ خَشِيَ الرحمن بالغيب} أي اتقى الله وهو غائب عن الناس، فالمجرور في موضع الحال، من خشي بدل أو مبتدأ، فإن قيل: كيف قرن بالخشية الاسم الدال على الرحمة؟ فالجواب: أن ذلك لقصد المبالغة في الثناء على من يخشى الله؛ لأنه يخشاه مع علمه برحمته وعفوه، قال ذلك الزمخشري؛ ويحتمل أن يكون الجواب عن ذلك أن الرحمن صار يستعمل استعمال الاسم الذي ليس بصفة كقولنا الله.{وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} قيل معناه النظر إلى وجه الله، كقوله: {الحسنى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] وقيل: يعني ما لم يخطر على قلوبهم كما ورد في الحديث مما يرويه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه أنه قال: «أعددت لعبادي الصالحين ما لاعين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر».{هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشًا} الضمير في هم للقرون المتقدمة، وفي منهم لكفار قريش {فَنَقَّبُواْ فِي البلاد} أي طافوا فيها، وأصله دخولها من أنقابها، أو من التنقيب عن الأمر، بمعنى البحث عنه {هَلْ مِن مَّحِيصٍ} أي قالوا: هل من مهرب من الله أو من العذاب.{لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ} أي قلب واع يعقل ويفهم {أَوْ أَلْقَى السمع وَهُوَ شَهِيدٌ} اي استمع وهو حاضر القلب {وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ} اللغوب الإعياء والتعب.{فاصبر على مَا يَقولونَ} يعني كفار قريش وغيرهم {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} يحتمل أن يريد التسبيح باللسان، أو يريد الصلاة وقد ذكر الزمخشري فيه الوجهين وقال ابن عطية: معناه: صلِّ بإجماع من المتأوّلين، وهي على هذا إشارة إلى الصلوات الخمس فقبل طلوع الشمس: الصبح، وقيل الغروب: الظهر والعصر. ومن الليل: المغرب والعشاء، وقيل: هي النوافل {وَأَدْبَارَ السجود} قال ابن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما: الركعتين بعد المغرب وقال ابن عباس: هي النوافل بعد الفرائض، وقيل: الوتر.{واستمع} معناه انتظر. فهو عامل في يوم يناد على أنه مفعول به صريح، وقيل: المعنى استمع لما نقصُ عليك من أهل القيامة. فعلى هذا لا يكون عاملًا في يوم يناد فيقوف على استمع والأول أظهر {يَوْمَ يُنَادِ المناد مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ} المنادي هنا إسرافيل الذي ينفخ في الصور، وقيل: إنما وصفه بالقرب لأنه يسمعه جميع الخلق، وقيل: المكان صخرة بيت المقدس، وإنما وصفها بالقرب لقربها من مكة {يَوْمُ الخروج} يعني خروج الناس من القبور.{يَوْمَ تَشَقَّقُ} العامل في هذا الظرف معنى قوله: {حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ} أو هو بدل مما قبله.{وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} أي بقهار تقهرهم على الإيمان كقوله: {لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية: 22] وقيل إخبار بأنه صلى الله عليه وسلم رؤوف بهم غير جبار عليهم، وهذا أظهر {فَذَكِّرْ بالقرآن مَن يَخَافُ وَعِيدِ} كقوله: {إِنَّمَا تُنذِرُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} [فاطر: 18] لأنه ينفع التذكير إلا من يخاف. اهـ.
|